-A +A
قراءة: علي الرباعي
يحول القرب الحسي من المكان دون إدراك الوعي بتفاصيله وربما أهميته أيضاً، ويحجب التماس مع الأشياء كثافة الحنين الذي يتولّد بمجرد إقامة حدود فاصلة بين الثنائيات (الوطن والمواطن، والغربة والاغتراب، والإقامة والسفر) وليس مثل البُعد في تفعيل حواس الإنسان تجاه ما يُحب. والشاعر الراحل عبدالله المسعودي يفتح فضاءً لا حدود له مأهولاً بأسئلة التعلق الحميم بالوطن باستثناء سؤال «لماذا» ويلخّص المسعودي تجربته في نشيد غنائي بسيط يعبّر عن هويّة إنسان هذه البلاد «غريـب دار وشوقتنـي بـلادي، الله يرجعنـي لهـا بالسـلامـه، هيّه هوى بالي وغايـة مـرادي، هي المحبـة والشرف والشهامـه».

ليس من جغرافيا تغنيك عن وطنك مهما بلغت في حضارتها ونظامها ونظافة شوارعها ورقي أهلها، فالوطن أبقى وأنقى وإن لم تكن فيه المقومات التي تغري بشد الرحال بالغدو والآصال، فالهواء في الوطن شفاء، والغذاء صحة، والناس دفء، والأحبة بلسم فؤاد «شوقي هواي دواي بلسم فـوادي، في نجد فـ أبها فـ الشفا فـ تهامه، بشمالهـا وجنوبهـا فـرع وادي، غربيهـا شرقيهـا خـد شامـه». ويستعيد الشعري الساحر (الاسم الفخم) الذي نفاخر به ونستشعر من خلاله انصهار القبائل والقرى والأرياف والهجر في بوتقته ومشتركه الوطني تحت راية سعودية يراها السعوديون شامة في خد الدهر ومعجزة قل ما تحقق مثلها في محيطنا العربي «بِقْيَتْ سعوديّـة ولِقْيَـتْ رشـادي، وجناتها تضحك بـدون ابتسامـه، لِبْسَتْ من الشيمة ملابس جـدادي، عِرْيَتْ وبِرْيَتْ من ثياب الندامـه».


وكعادة الشاعر المرهف في إحالة النص إلى نسيب والمحبوب إلى معشوق فاتن يفاخر العاشق بعشقه له، ويلبس له الأفخر من الزي المعمق صورة المخبر في المظهر في ظل افتتان بالمسمى لتتناغم الفكرة مع المفردة التي تعبر عنها «يا فاتنة باسمك اجـاوب وانـادي، لبست لك ثوب الفـرح والعمامـه، مفتون فيك وكل ما اخفيت بـادي، لامن يلوم ولاني اسمـع ملامـه، وانا اعرفك وافهمك جيد وجوادي، قـداً وتفصيـلاً وهامـة وقامـه».

ولن يغيب عن ذهن شاعر فطن فطانة عبدالله المسعودي في كشف أسباب العشق ودوافعه الإضافية، وإن كان بعض العشق لا يُفسّر إلاّ أن ولادة النبي عليه السلام على أرض المملكة، وتسطير الأبطال ملاحم الوحدة والتوحيد يرفد الغرام الفطري والهيام الجيني «يا من ظهر فوق البشر منك هادي، وابطال اعطوا للملاحـم لحامـه».

وبإدراك مسبق للشاعر الخبير بما يقول الوشاة والحاسدون، ها هو الشعر يتصدى ويحرر عقدة بعض الناقصين ممن يفتح سمعه ويتلقف ما يردده عذول خائب «مهما هرج فيك الحسود المعـادي، ما يلحقه غير التعب مـن كلامـه».

وفي صورة لونية يرسم شاعرنا لوحة انطباعية من الواقع، فما طبيعته السواد لا يمكن أن ينتج بياضاً ولا يرشح عنه زكياً، كما أن الصقور تنجب صقوراً والحمام ينجب حماماً وهناك بون شاسع بين مشاعر نابضة بالصدق وبين تدليس بائس ومكشوف «ما يقطر القطران عنبـر وكـادي، ولا ينجب الشيهان فرخ الحمامـه».

وبحكم طبيعة الأشياء يعود بنا محكم البناء إلى المطلع ليوطّد دعائم العلاقات ببعضها ويشحذ الهمم النابضة بالحب من الأولاد والأحفاد خصوصاً من عاش حياة البداوة وارتبط بالجمل لتظل رمزية الاتصال ماثلة «وانا سعودي من سلالـة جـدادي، وظهر الجمل ما ينفصل عن سنامه».